كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكل هذه ذخيرة، حين نخرج بها- من الحياة في ظلال القرآن- نكون قد جنينا خيرًا كثيرًا إن شاء الله.
إن من خلال هذه المجموعة من آيات هذا الدرس يبدو لنا أنه كان في الصف المسلم يومذاك:
«أ» من يبطئ نفسه عن الجهاد في سبيل الله، ومن يبطئ غيره. ثم يحسبها غنيمة إذا لم يخرج فسلم، على حين أصابت المسلمين مصيبة! كما يعدها خسارة إذا لم يخرج فغنم المسلمون، لأنه لم يكن له سهم في الغنيمة! وبذلك يشتري الدنيا بالآخرة!
«ب» وكان فيه من المهاجرين أنفسهم- وممن كانت تأخذهم الحماسة للقتال ودفع العدوان وهم في مكة، مكفوفون عن القتال- من يأخذهم الجزع حينما كتب عليهم القتال في المدينة؛ ويتمنى لو أن الله أمهلهم إلى أجل، ولم يكتب عليهم القتال الآن!
«ج» ومن كان يرجع الحسنة- حين تصيبه- إلى الله؛ ويرجع السيئة- حين تصيبه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا لشدة إيمانه بالله طبعًا؛ ولكن لتجريح القيادة والتطير بها!
«د» ومن كان يقول: طاعة، في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا خرج بيت هو ومن لف لفه غير الذي يقول!
«ه» ومن كان يتناول الشائعات، فيذيع بها في الصف؛ محدثًا بها ما يحدثه من البلبة، قبل أن يتثبت منها، من القيادة التي يتبعها!
«و» ومن كان يشك في أن مصدر هذه الأوامر والتوجيهات كلها هو الله سبحانه. ويظن أن بعضها من عند النبي صلى الله عليه وسلم لا مما أوحي له به!
«ز» ومن كان يدافع عن بعض المنافقين- كما سيأتي في مطلع الدرس التالي- حتى لتنقسم الجماعة المسلمة في أمرهم فئتين.. مما يوحي بعدم التناسق في التصور الإيماني وفي التنظيم القيادي (من ناحية عدم فهم المجموع لوظيفة القيادة وعلاقتهم بها في مثل هذه الشؤون).
وقد يكون هؤلاء جميعًا مجموعة واحدة من المنافقين؛ أو مجموعتين: المنافقين. وضعاف الإيمان، الذين لم تنضج شخصيتهم الإيمانية- ولو كان بعضهم من المهاجرين.. ولكن وجود تلك المجموعة أو هاتين المجموعتين في الصف المسلم- وهو يواجه العداوات المحيطة به في المدينة من اليهود، وفي مكة من المشركين، وفي الجزيرة العربية كلها من المتربصين.. من شأنه أن يحدث خلخلة في الصف؛ تحتاج إلى تربية طويلة، وإلى جهاد طويل!
ونحن نرى في هذا الدرس نماذج من هذا الجهاد، ومن هذه التربية. وعلاجًا لكل خبيئة في النفس أو في الصف. في دقة، وفي عمق، وفي صبر كذلك، يتمثل في صبر النبي صلى الله عليه وسلم قائد هذا الصف، الذي يتولى تربيته بالمنهج القرآني:
«أ» نرى الأمر بالحذر، فلا يخرج المجاهدون المؤمنون فرادى، للسرايا أو المهام الجهادية.
بل يخرجون «ثُباتٍ» أي سرايا أو فصائل.. أو يخرجون جميعًا في جيش متكامل. لأن الأرض حولهم ملغمة! والعداوات حولهم شتى، والكمين قد يكون كامنًا بينهم من المنافقين، أو ممن يؤويهم المنافقون واليهود من عيون الأعداء المتربصين!
«ب» ونرى تصويرًا منفرًا للمبطئين يبدو فيه سقوط الهمة؛ وحب المنفعة القريبة؛ والتلون من حال إلى حال، حسب اختلاف الأحوال! وكذلك نرى التعجيب من حال أولئك الذين كانوا شديدي التحمس في مكة للقتال، فلما كتب عليهم في المدينة عراهم الجزع.
«ج» ونرى وعد الله لمن يقاتلون في سبيل الله، بالأجر العظيم، وإحدى الحسنيين: {ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا}.
«د» ونرى تصوير القرآن لشرف القصد، وارتفاع الهدف، ونبل الغاية، في القتال الذي يدفعهم إليه.. {في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا}.
«ه» كما نرى تصوير القرآن لأحقية الغاية التي يجاهد لها الذين آمنوا وقوة السند؛ إلى جانب بطلان غاية الذين كفروا وضعف سندهم فيها: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا}.
«و» ونرى معالجة المنهج القرآني للتصورات الفاسدة، التي تنشأ عنها المشاعر الفاسدة والسلوك الضعيف. وذلك بتصحيح هذه التصورات الاعتقادية.. مرة في بيان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا}.. ومرة في تقرير حتمية الموت ونفاذ المقدر فيه؛ مهما يتخذ المرء من الاحتياط، ومهما ينكل عن الجهاد: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}.. ومرة في تقرير حقيقة قدر الله وعمل الإنسان: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
«ز» ونرى القرآن يؤكد حقيقة الصلة بين الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن طاعته من طاعته. ويقرر أن هذا القرآن كله من عنده؛ ويدعوهم إلى تدبر الوحدة الكاملة فيه، الدالة على وحدة مصدره: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.. {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
«ح» ثم نراه- بعد أن يصف حال المرجفين بالأنباء- يوجههم إلى الطريق الأسلم، المتفق مع قاعدة التنظيم القيادي للجماعة: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
«ط» ويحذرهم من عاقبة هذا الطريق، وهو يذكرهم فضل الله عليهم في هدايتهم: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}.
ونستطيع أن ندرك مدى الخلخلة التي كانت تنشئها هذه الظواهر في الجماعة المسلمة؛ والتي كانت تحتاج إلى مثل هذا الجهد الموصول، المنوع الأساليب.. حين نسمع الله سبحانه يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد- ولو كان وحيدًا- وأن يحرض المؤمنين على القتال. فيكون مسئولًا عن نفسه فحسب: والله يتولى المعركة: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا}.. وفي هذا الأسلوب ما فيه من استجاشة القلوب، واستثارة الهمم؛ بقدر ما فيه من استجاشة الأمل في النصر، والثقة ببأس الله وقوته.
لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة. وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري- حتى ولو لم يكن صادرًا عن نفاق أو انحراف- وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم. وهذه غاية أبعد وأطول أمدًا. فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة.. ولابد من التناسق مع اختلاف المستويات.. وهي تواجه المعارك الكبيرة.
والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية:
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم. فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا. وإن منكم لمن ليبطئن. فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا}.
إنها الوصية للذين آمنوا: الوصية من القيادة العليا، التي ترسم لهم المنهج، وتبين لهم الطريق. وإن الإنسان ليعجب، وهو يراجع القرآن الكريم؛ فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين- بصفة عامة طبعًا- الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم «استراتيجية المعركة». ففي الآية الأخرى يقول للذين أمنوا: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية. وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: {خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا} وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى «التاكتيك». وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات: {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} الآيات.
وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب؛ ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب- كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة. ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية.. ومن ثم يطلب- بحق- الوصاية التامة على الحياة البشرية؛ ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم، أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج، وتحت تصرفه وتوجيهه. وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر: منهجًا للحياة الشخصية، وللشعائر والعبادات، والأخلاق والآداب، مستمدًا من كتاب الله. ومنهجًا للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية، مستمدًا من كتاب أحد آخر؛ أو من تفكير بشري على الإطلاق! إن مهمة التفكير البشري أن تستنبط من كتاب الله ومنهجه أحكامًا تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة- بالطريقة التي رسمها الله في الدرس السابق من هذه السورة- ولا شيء وراء ذلك. وإلا فلا إيمان أصلًا ولا إسلام. لا إيمان ابتداء ولا إسلام، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام. وفي أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله.
وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبًا من الخطة التنفيذية للمعركة؛ المناسبة لموقفهم حينذاك. ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج. والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل. وهو يحذرهم ابتداء:
{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}.
خذو حذركم من عدوكم جميعًا. وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية:
{فانفروا ثباتٍ أو انفروا جميعًا}.
ثُباتٍ. جميع ثُبة: أي مجموعة.. والمقصود لا تخرجوا للجهاد فرادى. ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كله.. حسب طبيعة المعركة.. ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء، المبثوثون في كل مكان. وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي.. وهم كانوا كذلك؛ ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة.
{وإن منكم لمن ليبطئن. فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا}.
انفروا جماعات نظامية. أو انفروا جميعًا. ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم- كما هو واقع- وخذوا حذركم. لا من العدو الخارجي وحده؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم- أي يقعدون متثاقلين- أو يبطئون غيرهم معهم؛ وهو الذي يقع عادة من المخذّلين المثبطين!
ولفظة {ليبطئن} مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدًا؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرًا كاملًا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها.
وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة.
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: {وإن منكم لمن ليبطئن}، بأن هؤلاء المبطئين- وهم معدودون من المسلمين- {منكم} يزاولون عملية التبطئة كاملة، ويصرون عليها إصرارًا، ويجتهدون فيها اجتهادًا.. وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف المسلم؛ وشدة ما يلقاه منها!